الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فلما مضوا قال: {تالله لأكيدن أصنامكم} والكيد احتيال الكائد في ضر الكيد وأراد لأكسرنها فسمع الكلمة رجل منهم فأفشاها عليه فدخل بيت الأصنام وكانت اثنين وسبعين صنمًا من ذهب وفضة ونحاس وحديد وخشب فكسرها وجعلهم جذاذا أي فتاتا ثم وضع الفأس في عنق الصنم الكبير {لعلهم إليه يرجعون} في هاء الكناية قولان أحدهما أنها ترجع إلى الصنم فيظنون أنه فعل والثاني إلى إبراهيم والمراد الرجوع إلى دينه فلما رجعوا قالوا من فعل هذا بآلهتنا فنم عليه الذي سمع منه {لأكيدن} فقالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم أي يعيبهم {قالوا فأتوا به على أعين الناس} أي بمرأى منهم {لعهلم يشهدون} فيه ثلاثة أقوال أحدها يشهدون أنه قال لآلهتنا ما قال قاله ابن عباس والثاني أنه فعل ذلك قاله السدى والثالث يشهدون عقابه قاله ابن إسحاق {قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} قال: {بل فعله كبيرهم} والمعنى أنه غضب أن تعبد معه الصغار فكسرها وكان الكسائي يقف على قوله: {بل فعله} ويقول معناه فعله من فعله ثم يبتدئ {كبيرهم هذا} وقال ابن قتيبة هذا من المعاريض فتقديره {إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا} {فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون} حين عبدتم من لا يتكلم {ثم نكسوا على رءوسهم} أي أدركتهم حيرة فلما ألزمهم الحجة حملوه إلى نمرود فقال له ما إلهك الذي تعبد قال ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته قال: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} فبهت نمرود وحبسه سبع سنين وجوع له أسدين وأرسلهما عليه فكانا يلحسانه ويسجدان له ثم أوقد له نارًا ورماه فيها فسلم فكف نمرود عنه فخرج مهاجرًا إلى الشام فتزوج سارة وهي بنت ملك حران وكانت قد خالفت دين قومها ومضى فنزل أرض فلسطين فاتخذ مسجدًا وبسط له الرزق وكان يضيف كل من نزل به وأنزل الله عليه صحفًا أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي أنبأنا أبو الحسين ابن المهتدي أنبأنا الحسن بن أحمد بن علي الهماني حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الشمشاطي حدثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثنا أبي عن جدي عن إدريس الخولاني عن أبي ذر رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى على إبراهيم عليه السلام عشر صحائف قلت ما كانت صحف إبراهيم قال كانت أمثالًا كلها أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها وإن كانت من كافر وكان فيها وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبًا على عقله أن تكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يتفكر فيها في صنع الله وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنًا إلا في ثلاث تزود لمعاد ومرمة لمعاش ولذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه مقبلًا على شأنه حافظًا للسانه ومن حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه ثم إن الله تعالى اتخذه خليلًا وفي سبب ذلك ثلاثة أقوال:أحدها لإطعامه الطعام وكان لا يأكل إلا مع ضيف روى عبد الله بن عمرو ابن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يا جبريل لم اتخذ الله إبراهيم خليلًا قال لإطعامه الطعام والثاني أن الناس أصابتهم سنة فأقبلوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام وكانت له ميرة من صديق له بمصر في كل سنة فبعث غلمانه بالإبل إلى صديقه فلم يعطه شيئًا فقالوا لو احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فملأوا الغرائر رملًا ثم أتوا إلى إبراهيم فأعلموه فاهتم لأجل الخلق فنام وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان ففتحت الغرائر فإذا دقيق حوارى فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس فاستيقظ إبراهيم فقال من أين هذا الطعام فقالت من عند خليلك المصري فقال لا بل من عند خليلي الله فحينئذ اتخذه الله خليلًا رواه أبو صالح عن ابن عباس والثالث اتخذه الله خليلًا لكسره الأصنام وجداله قومه قاله مقاتل أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزار أنبأنا أبو محمد الحريري أنبأنا أبو عمر ابن حيوة أنبأنا أحمد بن معروف حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا محمد بن سعد حدثنا هشام بن محمد عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا ونبأه وله يومئذ ثلاثمائة عبد أعتقهم لله وأسلموا فكانوا يقاتلون معه بالعصي وابتلاه الله عز وجل بالكلمات فأتمهن روى طاوس عن ابن عباس قال ابتلاه الله بالطهارة خمس في الرأس قص الشارب والمضمضة والإستنشاق والسواك وفرق الرأس وخمس في الجسد تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اختتن إبراهيم بالقدوم والقدوم موضع وكان له يوم اختتن ثمانون سنة وقيل مائة وعشرون سنة وهو ختن نفسه وسأل ربه عز وجل أن يريه كيف يحيي الموتى وفي سبب ذلك أربعة أقوال أحدها أنه رأى ميتة تمزقها السباع والهوام فسأل ذلك قاله ابن عباس والثاني أنه لما بشر باتخاذه خليلًا سأل ليعلم بإجابته صحة البشارة قاله السدى عن أشياخه والثالث أنه أحب أن يزيل عوارض الوسواس قاله عطاء بن أبي رباح والرابع أنه لما قال لنمرود ربي الذي يحيي ويميت أحب أن يرى ما أخبر به قاله ابن إسحاق وأما نمرود فإنه بقي بعد إلقاء الخليل في النار أربعمائة عام لا يزداد إلا عتوًا ثم حلف ليطلبن إله إبراهيم قال السدى عن أشياخه أخذ أربعة أفراخ من أفراخ النسور فرباهن باللحم والخمر حتى إذا كبرن واستفحلن قرنهن بتابوت وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهن اللحم فطرن به حتى إذا ذهب في السماء أشرف ينظر إلى الأرض فرآها كأنها فلك في ماء ثم صعد فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه ولا ما تحته ففزع فنكس اللحم فاتبعنه منقضات فلما نزل أخذ بيني الصرح فسقط الصرح.قال زيد بن أسلم بعث الله تعالى إلى نمرود ملكًا فقال له آمن بي وأتركك على ملكك فقال وهل رب غيري فأتاه ثاينًا وثالثًا فأبى ففتح عليه بابًا من البعوض فأكلت لحوم قومه وشربت دماءهم وبعث الله عز وجل عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة عام يضرب رأسه بالمطارق وأرحم الناس به من يجمع يديه ثم يضرب بهما رأسه فعذب بذلك إلى أن مات وقال مقاتل عذب بالبعوضة أربعين يومًا ثم مات.
يا غافلين عما نالوا ملتم عن التقوى وما مالوا ما أطيب ليلهم في المناجاة وما أقربهم من طريق النجاة كان بشر الحافي طويل السهر يقول أخاف أن يأتي أمر الله وأنا نائم كم منع نفسه من شهوة فما أنالها حتى سمع كل يا من لم يأكل لما أتى لها كم حمل عليها حملًا ومارثى لها كم همت بنيل غرض بدا لها لما خافت عقبى مرض ينالها أصبح زاهدًا وأمسى عفيفًا ما أخذ من الدنيا إلا طفيفًا وما خرج عنها إلا نظيفًا هذا وكم وجد من الدنيا سعة وريفًا تقلب في ثياب الصبر نحيفًا وتوغل في طريق التقوى لطيفًا تالله لقد كان رأيه حصيفًا وما قدر حتى أعانه الرحمن {وخلق الإنسان ضعيفًا}. إخواني من عرف قدر نفسه عليه هانت الدنيا كلها لديه إن العقلاء نظروا إلى مشارع الدنيا فرأوها متوشحة بأقذار الفراط فاقتنعوا بثغب الغدران. سبحان من كشف لأحبابه ما غطى عن الغير وأعطاهم من جوده كل خير ومير فقطعوا مفاوز الدنيا بالصبر ولا ضير وكابدوا المجاعة حتى استحيا راهب الدير أفي أحوال هذه الدنيا تمارى أما ترى زيها مستردًا مستعارًا وسلب القرين يكفي وعظًا واعتبارًا أما اللذات فقد فنيت وأبقت عارًا وأما العمر فمنتهب جهارًا إياك وإيا الدنيا فرارًا فرارًا لقد قرت عيون الزاهدين وماتوا أحرارًا قتلت أقرانهم فانتهضوا يأخذون ثارًا وباعوها بما يبقى لا كرها بل اختيارًا قطعوا بالقيام ليلًا وبالصيام نهارًا واتخذوا الجد لحافًا والصبر شعارًا وركبوا من العزم أمضى من العربان المهارى واهتدوا إلى نجاتهم والناس في الجهل حيارى ربح القوم وخسرت وساروا إلى المحبوب وما سرت وأجيروا من اللوم وما أجرت واستزيدوا إلى القرب وما استزدت ذنوبك طردتك عنهم وخطاياك أبعدتك منهم قم في الليل ترى تلك الرفقة واسلك طريقتهم وإن بعدت الشقة وابك على تأخرك واحذر الفرقة.
|